عزمتَ على السفرِ إلى بلدٍ بعيدٍ في نزهةٍ، تقرفصُ على الأرض أمام حقيبتكَ، وقد أعددت قائمةً بالأمتعةِ المهمة التي تحرص ألّا تنساها: الملابس، الأحذية، بعض الأدوية إن كنت تعاني مرضًا مزمنًا، المال بالطبع، الكثير منه تحسبًا لظرفٍ طارئ، وتذكرة الطيران.
الآن تخيل أنك ستعبر القارات والمحيطات، في مهمةٍ قوميّة، تتمثلُ في إعادة القيمةِ الكُرويّة المُهدرة لشعبٍ كامل، هل سيختلف ترتيب قائمة الأولويات في حقيبة السفر؟
بالنسبة لليونيل ميسي وبعثة المنتخب الأرجنتيني التي حطّت الرحال في قطر، للمشاركة في كأس العالم 2022، كان ترتيب الأولويات مختلفًا قليلًا.
حرصت البعثة بأكملِها من لاعبين ومدربين وفنيين وإداريين، على ألّا يصعدوا الطائرة التي ستُقِلّهم إلى مجدهم المُنتظر، قبل أن يتأكدوا من وجودِ مشروبهم المفضل.
ليس الحديث هنا عن مشروبٍ ترحيبيّ يهوّن عليهم وعثاء السفر، أو حساءٍ باردٍ يقيهم قيظ المنطقة العربية الحارّة، وإنما ما يُقارب نصفَ الطنّ من مشروبٍ عشبيٍّ محليٍّ لطولِ فترة البطولة.
فما عساه يكون هذا المشروب؟ وما قصّته؟ ومتى اقتحم عالمَ الكرة وصار مُلازمًا لأشهرِ لاعبيها؟ وكيف لعب هذا المشروب دورًا في تتويج الأرجنتين بلقب بطولة كأس العالم 2022؟
من أوراق شجرة البَهشيّة الباراغوانيّة الجافة المحمصة، يُستخلص العشب الذي يُصنع منه مشروب المتّة. وهو شرابٌ يشيع وجوده في بعض دول أمريكا الجنوبية حصرًا، مثل: الباراغواي والأوروغواي والبرازيل والأرجنتين. كما يوجد أيضًا في بعض الدول الآسيوية مثل لبنان وسوريا.
تُعد الأرجنتين أكبر الدول المنتجة له، وقد بلغ إجمالي ما تنتجه مع البرازيل والباراغواي عام 2016، حوالي 1.4 مليون طنّ سنويًا، يُصدَّر منها ما قد تصل نسبته 5% في أحسن الأحوال، أما الباقي فهو للاستهلاك المحلي الغزير.
يمكن وصف المتّة في أبسط صورها وأكثرها تقليديّةً وانتشارًا، بأنها شرابٌ ساخن به مرارة، له مذاق الشاي وتأثير القهوة، لما يحتويه من مادة الكافيين، ويتم تحضيره بنقعِ الأوراق المجففة المحمصة في وعاءٍ يحمل اسم الشراب نفسه، ويُصنع من عديد المواد كالخشب أو المعدن أو الزجاج أو السيليكون المغطّى بالجلد.
وتحمل المتّة في بلدها الأم طقسًا معيّنًا في الشرب، إذ يُصب الماء الساخن على العشب في الوعاء، ومن ماصّة معدنية في الغالب يشربُ أحد الحضور، حتى يُصدرَ الوعاء صوتًا يوحي بنفاد الجزء السائل من المشروب، فيُصب مقدار آخر من الماء على العشب، ويمرر الوعاء والماصّة لشاربٍ آخر، وهكذا.
وهو طقسٌ له اسمٌ في اللغة الأرجنتينية «mateando» أي: أخذ الدور في شرب المتّة، وهو مصطلح تراجع عندما انتشرَ وباء كورونا وحذر الأطباء من خطورة انتقال العدوى عبر تلك الطريقة. فحلّ محلّه مصطلح آخر وهو «un mate egoista» أي المتّة الأنانية، لأنك لا تشاركها مع أحد.
ويمكن أن نستشفّ من ذلك، القيمة الاجتماعية والطابع الترابطيّ الذي يحمله في ثناياه هذا المشروب، وما يُعنيه في الأدبيّات الشعبية للبلدان المنتشر فيها.
فمتى اقتحم هذا المشروب ساحة كرة القدم العالمية وما فوائده؟
يشرب جريزمان المتّة قبل التمرين وفي كل رحلة للفريق، رغم أن قدمه لم تطأ الأوروغواي أبدًا!
المدرب الأوروغوياني مارتن لاسارتي، مدرب جريزمان في ريال سوسيداد.
أخرجت كرة القدم شرابَ المتّة من حيّزه المحلي في القارة الأمريكية الجنوبية، إلى قلب أوروبا وحواضرها الكروية الشهيرة. تُرجع كارلا خوان صاحبة إحدى العلامات التجارية لصناعة المتّة في الأرجنتين، السببَ جزئيًا إلى لاعبي كرة القدم اللاتين، من الأوروغواي والأرجنتين والبرازيل، الذين ينشطون بشكلٍ كثيف في الدوريات الأوروبية الكبرى.
وهل ثمّة واجهة دعائية للمشروب المحلي أفضل وأقدر على التأثير، من أسطورة اللعبة «ليونيل ميسي» الذي يظهر بشكلٍ متكرر قبل المباريات وفي يده وعاء من شراب المتّة؟!
سرتْ تلك العدوى من نجومٍ كبارٍ مثل ميسي وسواريز وأغويرو وغيرهم إلى زملائهم الأوروبيين، ومن مدربين لاتين مثل لاسارتي وماوريسيو بوتشينو، إلى فرقٍ كاملة مثل توتنهام ينشط لاعبوها على المستوى الدولي، ومنها إلى معسكرات المنتخبات الأوروبية مثل إنجلترا وفرنسا، في تأثير يشبه تأثير قطع الدومينو.
وهو تأثيرٌ له وجاهة، فشراب المتّة أغنى من الشاي بمضادات الأكسدة، وهو أكثر قدرةً على مدّ الجسم بالطاقة من القهوة، ولا يُظهر أية أعراض انسحاب، عكس القهوة التي يصحبُ زوالَ مفعولها خمولٌ وتوترٌ وقلقٌ. بالإضافة لِغناه بمجموعة من الفيتامينات والمعادن مثل الحديد والماغنسيوم والبوتاسيوم.
في تجربة بحثية أجريت عام 2014، ثبتت فائدة شراب المتّة للرياضيين، فشربها الدائم قبل التمرينات الرياضية، يزيد من معدلات تكسير الدهون ومعدلات فقد الطاقة المصاحبة للجهد المتوسط والشديد، بلا أية آثار سلبية على القدرة على التحمل والوصول إلى أقصى درجة ممكنة من الأداء الرياضي، وهو ما يُغري باستخدامها بفاعلية في إنقاص الوزن وقبل التمارين الرياضية.
وفي دراسةٍ أخرى صدرت عن قسم الصيدلة في جامعة بوينس آيرس الأرجنتينية، ثبت أن شراب المتّة يزيد من تدفق العصارة الصفراوية المسئولة عن هضم الدهون وتنشيط حركة الأمعاء، وهو ما يساعد اللاعبين في هضم الأطعمة التي تحمل سعرات حرارية عالية، وخصوصًا قبل المباريات.
لذا، فلا غرابة أن تحملَ دولة كالبرازيل حوالي 25 باوند من المتّة في رحلتهم لكأس العالم في قطر، أو أن تتكبد الأوروغواي عناء وتكلفة الطيرانِ بـ530 باوند منها، ولكن ماذا عن بطلة العالم الأرجنتين؟
أشربها لأنها تحتوي على الكافيين، لكنني أشربها أكثر من أي شيء آخر، لأنها تجمّعنا على غرضٍ واحد.
أليكسيس ماك أليستر، لاعب منتخب الأرجنتين.
حسب تقريرٍ للمحرر «جيمس فاغنر»، نُشر في صحيفة نيويورك تايمز قبل أيامٍ من نهائي كأس العالم 2022، فإن بعثة المنتخب الأرجنتيني قد حرصت على جلب حوالي 1100 باوند من المتّة معها إلى قطر، أي ما يقارب ضعف الكمية التي استهلكتها بعثتي الأوروغواي والبرازيل مجتمعتين.
لا يتعلق الأمر إذن بالمشروب وخوّاصه، وإن كانت له قيمة لا يمكن إغفالها، لكن القيمة الكبرى حسبما أوضح ماك أليستر تكمن في الأثر النفسي لهذا المشروب على اللاعبين.
هذا الأثر الذي تجلّى في كل مشهدٍ يظهر فيه الفريق، خارجًا من حافلةٍ أو متجهًا إليها أو في ردهة فندق، بلاعبيه –وعلى رأسهم ميسي- ومدربيه ومشرفيه وإدارييه، يرتشفون هذا المشروب أو يحملون شيئًا من أدواته.
يرى سيباستيان دروسي، اللاعب الأرجنتيني الدولي السابق في فئة الشباب والذي لعب أيضًا لنادي «ريفربليت» أحد أقطاب الكرة الأرجنتينية المحلية، الأمر من نفس المنظور.
فالمتّة بالنسبة للأرجنتينيّ كالماء، ويظهر ذلك بوضوح في غرفِ الملابسِ قبل المباريات، حيث الكل يشربها في نفس الوقت بلا حسابٍ أو مواعيد، لأنها تقوّي روح الصداقة بين اللاعبين، بل تصنعها بالأساس.
ربما كانت رغبة المنتخب الأرجنتيني في شحن تلك الكمية الضخمة، لأسباب اقتصادية ولوجستيّة تسهل لهم الحصول على مشروبهم المفضل بعيدًا عن الوطن بآلاف الكيلومترات، لكن المؤكد أن الحقيقةَ العلمية بأن المتّة تزيد من قوة تحمل اللاعبين وتأخير شعورهم بالتعب، بالإضافة لأثرها النفسيّ والقومي، لم تغب عن المختصين في بعثة المنتخب الأرجنتيني وربما اللاعبين أنفسهم، وربما كان ذلك ما صنع الفارق وساهم في الظفر بلقب البطولة الأهم في تاريخ الأرجنتين الكروي الحديث.